الحمد لله حمدا
كثيرا طيبا مباركا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
، و أشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله عليه و على آله وصحبه وسلم و على
التابعين له بإحسان وسلم تسليما كثيرا
أما ....... بعد،
قال تعالى " ياأيها الناس إنا
خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن
الله عليم خبير "
فمع تقسيم الله تبارك وتعالى الناس إلى أمم
و شعوب ، تعاظم دور الإنسان في مجال العمل الإجتماعي بميوله الفطري وشغفه إلي الإنخراط
في جماعات متميزة ، فتعالت دعواته إلى لم الشمل و خلط العوام بينها وبين صلة الأرحام
، وحين تتردد عبارة لم الشمْل على ألسنة الكثير من العشائر ، أشعر و كأن الله قد فرق
شملهم ، أو أنهم يسقطونها في غير محلها دون ادراك لمدلولها الحقيقي .
والمتتبع لهذه الدعوات التي لا مسوغ لها ،
يجدها تحمل بين طياتها أهداف حياتية تتأرجح ما بين سياسية و اقتصادية و إجتماعية
، فاستبدلوا صلة الأرحام والأخوة في الدين إلى دعوات عنصرية تضرم نار الفتنة و
الفرقة في جسد الأمة الإسلامية .
ولست متخذ موقفا ضد لم الشمل إن كان لجمع
لاجئي أو مضطهدي الحروب و الإستعمار ، أومن فرقتهم الكوارث الطبيعية
، و إنما موقفي كان من هذه الدعوات التي يطنطن بها البعض داخل مجتمعات مستقرة و
آمنة ، أوضحها بتناول مفهومها و أسبابها
على هذا النحو:
تعريف لم
الشمل :
كلمة الشمْل
بسكون الميم تعني جمع ما تفرق ، فيقال جمع الله شملهم أو فرق الله شملهم ، ويقال في
الدعاء على الأعداء : شتت اللهُ شمْلَهم ، أي فرق جمعهم .
وقال ابن بزرج
منشدا : قد يجعل اللهُ بعد العسْر ميسرة ... ويجمعُ اللهُ بعدَ الفرقَةِ
الشملاَ
أسبابه :
ولم الشمل لا
يأتي إلا عقب فرقة أعقبت جمع ، و إن إختلفت الأسباب :
فقد يفترق الناس بعقوبة من الله عز وجل كما كان الأمر
في بني اسرائيل في قوله تعالى " وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون
ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون "
وفي قوله
تعالى أيضا " قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على
القوم الفاسقين "
و قد تكون
الفرقة بسبب الإستعمار كما هو الحال بالنسبة للاجئين الفلسطنيين ، أو بسبب التهجير
كما حدث لسكان مدن قناة السويس إبان حرب
67 و 73 ، أو بسبب الصراعات الداخلية كما هو الحال في سوريا ، أو لصراعات طائفية
كالتي في العراق ، أو لظروف اقتصادية و كوارث طبيعية كالمجاعات التي تضرب دول
أفريقيا السمراء و الفيضانات و السيول وغيرها .
و قد يكون
بسبب حركات انفصالية أو تقسيم لحدود الدول التي تفرق بين أسر و عائلات على الشريط
الحدودي كما هو الحال بالنسبة لشمال وجنوب السودان و رفح الفلسطينية و رفح المصرية
.
نشأته :
في الأصل ترجع
دعاوى لم الشمل إلى بني إسرائيل حيث تجد لها صدى في عقيدتهم ، فيدين أتباع العقيدة
الألفية بأن الله لم يفي بوعده لإبراهيم عليه وعلى نبينا السلام لكون شعب إسرائيل لم يرث حتى اليوم أرض كنعان كاملة و أنه يتعين
أن يحدث ذلك في العهد الألفي بعودة المسيح الذي سيتولى لم شملهم و يكون ملكا عليهم
في فلسطين .
وفي سفر تثنية
الاشتراع } إذا
رجع بنو إسرائيل إلى حفظ وصايا الرب التي أمر بها موسى (آية ٢)، أرجعهم الرب من الأسر
(آية ٣) ليسكنوا أرض كنعان (آية ٥) {.
و قد تطور
مفهوم لم الشمل و أصبح من حقوق الرعايا حتى شرعت القوانين الوضعية تنظيمات خاصة لمنح
الجنسية للأزواج والمقيمين للم شمل الأسر
بها .
الفرق بين لم
الشمل و صلة الأرحام :
1- فبينما تجد أن لم الشمل
لا يأتي إلا عقب فرقة ، فإن صلة الأرحام عمل منشيء لذاته .
2- في حين أن دعوى لم الشمل من الأمور العارضة التي تدور
وجودا وعدما مع ظروف طارئة على جماعات أودت بهم إلى تفرق ، فإن صلة الأرحام من
الأمور الدائم العمل بها ، الغير مرتبطة بأسباب أو ظروف خارجة عليها.
3- لم الشمل وإن كان أمر مرتبط بالإنفصال الجغرافي ، إلا أن
صلة الأرحام لا ترتبط بذلك ، فقد يصل الإنسان أولي رحمه من المقيمين خارج وطنه
بالسؤال أو الدعاء أو المساعدة المادية أو المعنوية .
4- دعاوى لم الشمل موجهة للأحياء فقط على خلاف صلة الأرحام موجهة
للأحياء و الأموات ، فعن أبي أسيد مالك بن ربيعةَ السّاعدي قَال:
((بينا نحن جلوس عند رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
علَيه وسلم, إِذْ جاءه رجلٌ من بني سلَمة, فَقال: يا رسول اللَّهِ, هلْ بقِيَ من بِرِّ
أبويَّ شيءٌ أبرهما به بعد موتهما؟
فقَال: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفَارُ لَهما,
وصلَة الرحم التي لا توصل إلا بهما،وإكرام صديقهما))
5- دعاوى لم الشمل لا تتطلب أو ترتبط برحم (قربى) فقد تكون
لجماعات قومية أو عرقية أو مذهبية ، على خلاف صلة الأرحام مرتبطة بقربى و إتصال
نسب .
6- دعاوى لم شمل لا ترتبط بدين سماوي فقد تطلق لجمع أمة أو
أسر وثنية ، بينما صلة الأرحام أمر إلهي فقد قال فيه الله تعالى "وأولو الأرحام
بعضهم أولى ببعض"
7- ليس في السكوت عن لم الشمل معصية ، على خلاف قاطع الرحم
فعليه كبيرة في قوله تعالى " فهل عسيتم إن توليتم
أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم"
8- صلة الأرحام تدرك ما لايدركه لم الشمل فقد قال صلى الله
عليه وسلم (من سره أن يُبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره، فليصل رحمه)
9- يتحقق لم الشمل بالعودة والجمع في حين تتحقق صلة الأرحام
بالسؤال و المودة و الدعاء و العون .
و في النهاية و
إن كان يبدوا للعوام أن كلاهما سواء ، فإنه ينبغي على متصدرين العمل الإجتماعي و
باحثي الأنساب أن يفصلوا بين الأمرين ليكون الإسقاط للفظ في محله دون غياب المدلول
أو المعنى .
الفقير إلى
العلي القدير
خالد عبدالله
عنان العُمري